فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (14):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قال عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قال الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما هز سبحانه إلى الجهاد وشوق إليه بأنه متجر رابح، ولوح إلى النذارة بالتنشيط بالبشارة، فتهيأت النفوس إلى الإقبال عليه وانبعثت أي انبعاث، حض عليه بالإيجاب المقتضي للثواب أو العقاب، فقال مناديًا بأداة البعد والتعبير بما يدل على أدنى الأسنان تأنيبًا على أنه لا يعدم الوصف بالإيمان إلا مقرون بالحرمان تشويقًا وتحببًا: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بذلك فأذعنوا بهذا الوعظ غاية الإذعان أني أمرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لكم: {كونوا} أي بغاية جهدكم {أنصار الله} أي راسخين في وصف النصرة وفي الذروة العليا من ثبات الأقدام في تأييد الذي له الغنى المطلق لتكونوا- بما أشارت إليه قراءة الجماعة بالإضافة- بالاجتهاد في ذلك كأنكم جميع أنصاره، فإنكم أشرف من قوم عيسى عليه الصلاة والسلام، وما ندبكم سبحانه لنصرته إلا لتشريفكم بمصاحبة رسله الذين هم خلاصة خلقه عليهم الصلاة والسلام فقولوا سمعنا وأطعنا نحن أنصار الله وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بالتنوين ولام الجر على معنى: كونوا بعض أنصاره، ويشبه أن يكون المأمور به في هذه القراءة الثبات على الإيمان ولو في أدنى الدرجات، وفي قراءة الجمهور الرسوخ فيه.
ولما كان التقدير على صفة هي من الثبات والسرعة على صفة الحواريين، عبر عن ذلك بقوله: {كما} أي كونوا لأجل أني أنا ندبتكم بقولي من غير واسطة ولذذتكم بخطابي مثل ما كان الحواريون أنصار الله حين {قال عيسى ابن مريم} حين أرسلته إلى بني إسرائيل ناسخًا لشريعة موسى عليه الصلاة والسلام {للحواريين} أي خلص أصحابه وخاصته منهم: {من أنصاري} حال كونهم سائرين في منازل السلوك والمعاملات ومراحل المجاهدات والمنازلات {إلى الله} أي المحيط بكل شيء فنحن إليه راجعون كما كنا به مبدوئين.
ولما اشتد تشوف السامع إلى جوابهم، أبان ذلك بقوله: {قال الحواريون} معلمين أنه جادون في ذلك جدًا لا مزيد عليه عاملين فيما دعاهم إليه عمل الواصل لا السائر لعلمهم أنه إجابته إجابة الله لأنه لا ينطق عن الهوى فليس كلامه إلا عن الله: {نحن} أي بأجمعنا {أنصار الله} أي الملك الأعلى الذي هو غني عنا وقادر على تمام نصرنا، ولو كان عدونا كل أهل الأرض ننصره الآن بالفعل، لا نحتاج إلى تدريب يسير ولا نظر إلى غير، لاستحضارنا لجميع ما يقدر عليه الآدمي من صفات جلاله وجماله وكماله، ولذلك أظهروا ولم يضمروا.
ولما كان التقدير: ثم دعوا من خالفهم من بني إسرائيل وبارزوهم، سبب عنه قوله: {فآمنت} أي به {طائفة} أي ناس فيهم أهلية الاستدارة لما لهم من الكثرة {من بني إسرائيل} أي قومه {وكفرت طائفة} أي منهم، وأصل الطائفة: القطعة من الشيء {فأيدنا} أي قوينا بعد رفع عيسى عليه الصلاة والسلام {الذين آمنوا} أي الذين أقروا بالإيمان المخلص منهم وغيره في القول والفعل وشددنا قلوبهم {على عدوهم} الذين عادوهم لأجل إيمانهم.
ولما كان الظفر بالمحبوب أحب ما يكون إذا كان أول النهار، تسبب عن تأييده قوله: {فأصبحوا} أي صاروا بعد ما كانوا فيه من الذل {ظاهرين} أي عالين غالبين قاهرين في أقوالهم وأفعالهم لا يخافون أحدًا إلا الله ولا يستخفون منه، فالتأييد تارة يكون بالعلم وتارة بالفعل {علمه شديد القوى} [النجم: 5] فصار علمه في غاية الإحكام وتبعته قوة هي في منتهى التمام، لأنه ناشئ عن علم مستفاد من قوة، وإلا لقال: علمه كثير العلم.
{قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك} [النمل: 40] قوة مستفادة من علم، والظاهر كما هو ظاهر قوله تعالى: {جاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة} [آل عمران: 55] وغيرها أن تأييد المؤمنين به كان بعد رفعه بيسير حين ظهر الحواريون وانبثوا في البلاد يدعون إلى الله بما آتاهم من الآيات، فاتبعهم الناس، فلما تمادى الزمان ومات الحواريون رضي الله عنهم افترق الناس ودب إليهم الفساد، فغلب أهل الباطل وضعف أهل الحق حتى كانوا عند بعث النبي صلى الله عليه وسلم عدمًا أو في حكم العدم، كما دلت عليه قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه، فقد رجع آخر السورة كما ترى بما وقع من التنزه عما يوهمه علو الكفرة من النقص بنصر أوليائه وقسر أعدائه، ومن الأمر مما أخبر أولها أنه يحبه من القتال في سبيله حثًا عليه وتشويقًا إليه- على أولها، واتصل بما بشر به من آمن ولو على أدنى وجوه الإيمان من العز موصلها بمفصلها، بما أزيل من الأسباب الحاملة له على المداراة، والأمور التي أوقعته في المماشاة مع الكفار والمجاراة، فأوجب ذلك رسوخ الإيمان، وحصول الإتقان، المقتضي للتنزيه بالفعل عن كل شوب نقصان، والله الموفق للصواب وعليه التكلان. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ثم قال تعالى: {يا أَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ الله كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ مَنْ أَنَّصَارِي إِلَى الله قال الحواريون نَحْنُ أنصار الله}.
قوله: {كُونُواْ أَنصَارَ الله} أمر بإدامة النصرة والثبات عليه، أي ودوموا على ما أنتم عليه من النصرة، ويدل عليه قراءة ابن مسعود: كونوا أنتم أنصار الله فأخبر عنهم بذلك، أي أنصار دين الله وقوله: {كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيّينَ} أي انصروا دين الله مثل نصرة الحواريين لما قال لهم: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله} قال مقاتل، يعني من يمنعني من الله، وقال عطاء: من ينصر دين الله، ومنهم من قال: أمر الله المؤمنين أن ينصروا محمدًا صلى الله عليه وسلم كما نصر الحواريون عيسى عليه السلام، وفيه إشارة إلى أن النصر بالجهاد لا يكون مخصوصًا بهذه الأمة، والحواريون أصفياؤه، وأول من آمن به، وكانوا اثني عشر رجلًا، وحواري الرجل صفيه وخلصاؤه من الحور، وهو البياض الخالص، وقيل: كانوا قصارين يحورون الثياب، أي يبيضونها، وأما الأنصار فعن قتادة: أن الأنصار كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدة ابن الجراح، وعثمان بن مظعون، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وعثمان بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوام، ثم في الآية مباحث:
البحث الأول: التشبيه محمول على المعنى والمراد كونوا كما كان الحواريون.
الثاني: ما معنى قوله: {مَنْ أَنصَارِي إِلَى الله}؟ نقول: يجب أن يكون معناه مطابقًا لجواب الحواريين والذي يطابقه أن يكون المعنى: من عسكري متوجهًا إلى نصرة الله، وإضافة {أَنصَارِي} خلاف إضافة {أَنْصَارُ الله} لما أن المعنى في الأول: الذين ينصرون الله، وفي الثاني: الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله.
الثالث: أصحاب عيسى قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} وأصحاب محمد لم يقولوا هكذا، نقول: خطاب عيسى عليه السلام بطريق السؤال فالجواب لازم، وخطاب محمد صلى الله عليه وسلم بطريق الإلزام، فالجواب غير لازم، بل اللازم هو امتثال هذا الأمر، وهو قوله تعالى: {كُونُواْ أَنصَارَ الله}.
ثم قال تعالى: {فآمنت طائفة من بني إسرائيل وكفرت طائفة فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين}.
قال ابن عباس يعني الذين آمنوا في زمن عيسى عليه السلام، والذين كفروا كذلك، وذلك لأن عيسى عليه السلام لما رفع إلى السماء تفرقوا ثلاث فرق، فرقة قالوا: كان الله فارتفع، وفرقة قالوا: كان ابن الله فرفعه إليه، وفرقة قالوا: كان عبد الله ورسوله فرفعه إليه، وهم المسلمون، واتبع كل فرقة منهم طائفة من الناس، واجتمعت الطائفتان الكافرتان على الطائفة المسلمة فقتلوهم وطردوهم في الأرض، فكانت الحالة هذه حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فظهرت المؤمنة على الكافرة فذلك قوله تعالى: {فأيدنا الذين آمنوا على عدوهم}، وقال مجاهد: {فَأَصْبَحُواْ ظاهرين} يعني من اتبع عيسى، وهو قول المقاتلين، وعلى هذا القول معنى الآية: أن من آمن بعيسى ظهروا على من كفروا به فأصبحوا غالبين على أهل الأديان، وقال إبراهيم: أصبحت حجة من آمن بعيسى ظاهرة بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وأن عيسى كلمة الله وروحه، قال الكلبي: ظاهرين بالحجة، والظهور بالحجة هو قول زيد بن علي رضي الله عنه، والله أعلم بالصواب والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ}
أكّد أمر الجهاد؛ أي كونوا حوارِيّ نبيِّكم ليظهركم الله على من خالفكم كما أظهر حواريّ عيسى على من خالفهم.
وقرأ ابن كثِير وأبو عمرو ونافع {أنصارًا لله} بالتنوين.
قالوا: لأن معناه اثبتوا وكونوا أعوانًا لله بالسيف على أعدائه.
وقرأ الباقون من أهل البصرة والكوفة والشام {أنصار الله} بلا تنوين؛ وحذفوا لام الإضافة من اسم الله تعالى.
واختاره أبو عبيد لقوله: {نحنُ أَنْصَارُ الله} ولم ينوّن؛ ومعناه كونوا أنصارًا لدين الله.
ثم قيل: في الكلام إضمار؛ أي قل لهم يا محمد كونوا أنصار الله.
وقيل: هو ابتداء خطاب من الله؛ أي كونوا أنصارًا كما فعل أصحاب عيسى فكانوا بحمد الله أنصارًا وكانوا حواريّين.
والحوَاريُّون خواصّ الرسل.
قال مَعْمَر: كان ذلك بحمد الله؛ أي نصروه وهم سبعون رجلًا، وهم الذين بايعوه ليلة العَقَبة.
وقيل: هم من قريش.
وسمّاهم قتادة: أبا بكر وعمر وعليّ وطلحة والزبير وسعد بن مالك وأبا عبيدة واسمه عامر وعثمان بن مَظْعُون وحمزة بن عبد المطلب؛ ولم يذكر سعيدًا فيهم، وذكر جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين.
{كَمَا قال عِيسَى ابن مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} وهم أصفياؤه اثنا عشر رجلًا، وقد مضت أسماؤهم في (آل عمران)، وهم أوّل من آمن به من بني إسرائيل، قاله ابن عباس.
وقال مقاتل: قال الله لعيسى إذا دخلت القرية فأت النهر الذي عليه القَصَّارون فاسألهم النُّصرة، فأتاهم عيسى وقال: من أنصاري إلى الله؟ قالوا: نحن ننصرك.
فصدّقوه ونصروه.
ومعنى {مَنْ أَنْصَارِي إلىَ الله} أي من أنصاري مع الله، كما تقول: الذَّوْد إلى الذَّوْد إبل، أي مع الذَّوْد.
وقيل: أي من أنصاري فيما يقرّب إلى الله.
وقد مضى هذا في (آل عمران).
{فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} والطائفتان في زمن عيسى افترقوا بعد رفعه إلى السماء، على ما تقدم في (آل عمران) بيانه.
{فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ} الذين كفروا بعيسى.
{فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} أي غالبين.
قال ابن عباس: أيّد الله الذين آمنوا في زمن عيسى بإظهار محمد على دين الكفار.
وقال مجاهد: أيدوا في زمانهم على من كفر بعيسى.
وقيل أيّدنا الآن المسلمين على الفرقتين الضالتين، من قال كان الله فارتفع، ومن قال كان ابن الله فرفعه الله إليه؛ لأن عيسى ابن مريم لم يقاتل أحدًا ولم يكن في دين أصحابه بعده قتال.
وقال زيد بن عليّ وقتادة: {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} غالبين بالحجة والبرهان؛ لأنهم قالوا فيما روي: ألستم تعلمون أن عيسى كان ينام والله لا ينام، وأن عيسى كان يأكل والله تعالى لا يأكل!.
وقيل: نزلت هذه الآية في رسل عيسى عليه الصلاة والسلام.
قال ابن إسحاق: وكان الذي بعثهم عيسى من الحوارِيّين والأتباع فطرس وبولس إلى رُومِيَة، واندراييس ومثى إلى الأرض التي يأكل أهلها الناس.
وتوماس إلى ارض بابل من أرض المشرق.
وفيلبس إلى قُرْطَاجَنّة وهي أفريقية.
ويحنّس إلى دقسوس قرية أهل الكهف.
ويعقوبس إلى أورشليم وهي بيت المقدس.
وابن تلما إلى العرابية وهي أرض الحجاز.
وسمين إلى أرض البربر.
ويهودا وبردس إلى الإسكندرية وما حولها.
فأيدهم الله بالحجة.
{فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} أي عالين؛ من قولك: ظهرت على الحائط أي عَلَوْت عليه.
(والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب). اهـ.